الخطأ الّذي جعلنا نلتقي مباشرة دون حواجز | نصوص

تصوير: ميغيل بادرينا

 

اللحظات الأخيرة لزيارة الأسير تكثّف المعاني والمشاعر، فكيف إن حصل لقاء دون حواجز في هذه اللحظات؟

تمتدّ زيارة الأهالي للأسرى لـخمس وأربعين دقيقة، تُحْسَب كلّ دقيقة منها على حدة؛ فلكلّ دقيقة وزنها وأهمّيّتها، فهذه الدقائق ستكون المخزون الفكريّ والعاطفيّ والبصريّ لانقطاع كلّيّ سيستمرّ مدّة أسبوعين إلى حين اللقاء القادم، إن لم يُعَطَّل اللقاء، حينذاك يمتدّ الانقطاع إلى شهر كامل.

حين يتوقّف عدّاد الكلام، وأحيانًا دون أن تكوني قد انتبهت له، ينقطع الكلام. نعم، لقد أسميته عدّاد الكلام، وأحيانًا تسمّينه عدّاد الكلمات لأنّه يَعُدّ لنا الزمن الّذي انقضى من الزيارة والزمن المتبقّي منها؛ لأنّه يَعُدّ لنا عدد الكلمات ومقدار الكلام الّذي تبقّى لنا أن نقوله في الزيارة، ويُدْخِلُنا في معركة مع الزمن كيف نسبق الزمن، كيف نتحايل على العدّاد فنكثّف الكلام.

يحدث أحيانًا العكس؛ فبدل أن تكثّفي الكلام في نهاية اللقاء، يختفي الكلام، يتوقّف، ولا تعودين تجدين الكلمات الصحيحة، تفكّرين وتفكّرين ولا تخرج من فمك الكلمات. أحيانًا يحدث أمر آخر، تبدئين بالثرثرة، تخرج من فمك كلمات، تتكرّر الكلمات بعشوائيّة وتلقائيّة: "طيّب، طيّب"، "منيح، منيح"، دون أن تكون الكلمات هادفة إلى شيء إلّا أنّها تدلّ على الارتباك، على الشعور فجأة بأنّ الزمن سيتوقّف، وأنّ الزيارة ستتوقّف.

أمر حاولت جاهدة أن تتحايلي عليه خلال الزيارة؛ فتناسيت أنّك تتحدّثين إلى زوجك عبر سمّاعة هاتف، تناسيت عين الرقيب الّتي تراقب المحادثات وتهتمّ جاهدة أن تُشْعِرَك بأنّك تحت الرقابة؛ فكيف لكلمات العاطفة أن تخرج من فمك في واقع كهذا؟

هذا العدّاد اللعين يجعلك تدخلين في معركة معه، تدخلين في معركة مع جهاز يعكس نظامًا كاملًا لجهاز آخر أكبر منه، هو جهاز القمع، جهاز مصلحة السجون الصهيونيّ. مدير السجن ليس حاضرًا ولا رئيس القسم، لكنّهما حاضران من خلال عدّاد الكلام وسمّاعة الهاتف الّتي توصل الكلام بينك وبين زوجك في الطرف الآخر من الزجاج، وهي ذاتها السمّاعة الّتي تقطع الكلام وتمنعه.

***

 

مرّت سبع سنوات على هذا الحال وأنت تتحايلين على السمّاعة وعلى عدّاد الكلمات؛ فتسبقينه أحيانًا، وتنجحين في معركتك الصغيرة، ويغلبك أحيانًا كثيرة. حتّى مجرّد أنّه ينجح أن يأخذ من وقتك، وقت الزيارة؛ ليجعلك تفكّرين فيه، وتُجْرين عمليّات حسابيّة لحساب كم تبقّى من الوقت للزيارة، وأنت لا تحبّين الحساب؛ فأنت سيّدة الكلمات ولست سيّدة الأرقام.

حتّى هذه المعركة الصغيرة ينجح فيها هذا الجهاز اللعين، ويغلبك كثيرًا من الأحيان، ويضطرّك إلى أن تقطعي الكلام لتسألي زوجك، وهو أمير الأرقام ويتقن لعبتها، ليجري عمليّة حسابيّة بسيطة لتعرفي كم تبقّى من الوقت للزيارة. فأنت تملكين ساعة يد، وساعة أخرى تظهر على شاشة هاتفك، لكنّ كليهما ممنوعان في السجن.

في السجن، الممنوعات هي القاعدة. أغلب الأشياء ممنوعة، الكلام في حدّ ذاته مراقب، ومدّته محسوبة، والأجهزة مثل الساعة والهاتف ممنوعة. حين تدخلين بوّابة السجن تهتمّ أجهزة الرقابة وتعليماتهم بأن تجرّدك من كلّ شيء، من هاتفك وساعاتك وأساورك وحزام بنطالك إن نسيته عليك، وحقيبة يدك. تجرّدك من كلّ هذا، إلّا أنّها لا تنجح في أن تجرّدك من مشاعرك ومن إنسانيّتك.

وكلّما اشتدّت هجمتهم واحتدّت تقييداتهم وضيّقت عليك، انشغلتِ أكثر باللقاء، وبمشاعرك، وبفكرة أنّك ستدخلين بعد هذه الإجراءات التافهة، وتلتقين بزوجك، وهو الأمر الأهمّ في كلّ هذه المعركة الّتي يعتقدون أنّهم ينتصرون بها عليك، لكنّهم يخسرون؛ إذ يتحوّلون إلى آلات دون مشاعر، وأنت تبقين مع كلّ مشاعرك، ولا يقدر أيٌّ منهم على أن ينتقصها.

مرّت سبع سنوات وبقيت سنتان، على هذا الحال، على حربك مع عدّاد الكلمات ولعبة عدّ الأرقام على العدّاد، حربك مع منظومة القمع الكاملة المتجسّدة في عدّاد الكلمات، خلال زياراتك لزوجك مع زيارات الأهل، وقبل أن تصبحي محامية تزور الأسرى في غرفة المحامين المجاورة لغرفة زيارات الأهل الّتي لا تخضع لعدّاد الكلام.

***

 

اللحظات الأخيرة للزيارة انتهت، أعلن عدّاد الكلام توقّف الكلام. وقف الحضور من كلا الجانبين، تباطأ الجميع من كلا الجانبين، الأسرى والعائلات، تباطؤوا عن الوقوف وتباطؤوا عن الخروج.

الحرّاس الّذين تكاسلوا قليلًا أثناء الزيارة يبدؤون في هذه اللحظة بالحركة ومطالبة الأهالي بالخروج من الغرفة، وحثّ الأسرى باتّجاه باب الغرفة المؤدّية للعنابر، وتبدأ العائلات بالخروج. يحدث أحيانًا حين يتلكّأ الأهالي عن الخروج، أن يطفئ السجّانون الإضاءة في محاولة أخرى لحثّ العائلات على الخروج.

دائمًا ما تكون ابنتاي آخر الحضور الّذين يتركون الغرفة، يسير زوجي متثاقل الخطى نحو باب الغرفة، ملوّحًا بيده بالسلام، مطلقًا قبلات في الهواء، وتفعل ابنتاي الحركة ذاتها، وترسمان حركة القلوب في اليدين. أسير أنا قبلهما في اتّجاه باب الخروج، منعًا لأيّ صدام لهما مع السجّان، محفّزة إيّاهما على الخروج.

حدث يومذاك أن عبرت باب غرفة الزيارات، ووقفت في الممرّ المؤدّي من جهته الّتي بابها مفتوح إلى الساحة الداخليّة للسجن، ومنها إلى الخارجيّة، حيث ينتظر السجّانون ليكتمل عدد الأهالي الّذين كانوا في الزيارة لإخراجهم دفعة واحدة. يتجمّع الأهالي هناك. في الجهة الثانية من الممرّ باب أزرق آخر مغلق، يؤدّي إلى عنابر الأسرى، وخلفه أيضًا اجتمع الأسرى الّذين كانوا بالزيارة بعمليّة مشابهة، بانتظار وصول جميع مَنْ كان منهم في الزيارة لوصول السجّانين معهم إلى عنابرهم.

***

 

لا يُفْتَح في السجن باب قبل أن يُغْلَق آخر!

من أكثر الأصوات الّتي تبقى عالقة بذهني بعد الزيارة، صوت اصطكاك الباب الحديديّ بالقفل وهو يُغْلَق. من هذا الباب أيضًا، يمرّ الأسرى باتّجاه غرفة المحامين للقائهم حين تُحَدَّد لهم زيارة، وفي العادة لا تُحَدَّد الزيارة بوقت زيارة الأهل.

وقفت وسط الممرّ أنتظر خروج بناتي منعًا لأيّ احتكاك أو توتّر مع السجّانين الّذين يتوجّهون إليّ، طالبين أن أحثّ بناتي على الخروج من غرفة الزيارة. وقفت في الممرّ قريبًا من باب الزيارة الّذي يبعد نصف متر عن الباب الأزرق المغلق المؤدّي إلى عنابر الأسرى. فجأة، وخلال ثوانٍ، فُتِح الباب، خرج منه صديق أسير يسير باتّجاه غرفة المحامين، وكان السجّان خلفه.

كنّا في الممرّ ذاته تفصلنا عن بعض مسافة نصف متر فقط، ولكن لا فاصل بيننا، لا جدران ولا زجاج، لم أستوعب الموقف، وهو لم يستوعبه أيضًا، تعاملنا كأنّ بيننا حاجز زجاج اعتدنا وجوده، ذلك الحاجز الّذي كان هناك قبل لحظات. حيّينا بعضنا، وحينذاك فقط استوعب كلانا أن لا حواجز تفصلنا، حضنّا بعضنا بعضًا بكلّ شوق الأصدقاء، وكلّ شوق العائلات لحضن أسراهم، حضنًا كان سريعًا دافئًا معبّرًا، ويحمل الكثير الكثير من المعاني، ليس مثل حضن أيّ صديق تلقاه صدفة في الطريق خارج أسوار السجن، فأيّ حدث في السجن هو حدث يحمل بُعْدًا آخر ومعاني مكثّفة.

كان الحدث سريعًا تكثّفت فيه المشاعر، ولا أبالغ إن قلت تكثّفت فيه مشاعر أهالي الأسرى والأسرى والأصدقاء المحرومين من حضن بعضهم بعضًا، جرّاء تعليمات السجن الّتي لا تتيح زيارات الأصدقاء، ولا حتّى الأقارب غير الدرجة الأولى.

كان الأمر سريعًا، لم يمتدّ هذا الموقف لأكثر من دقيقة، حين استوعب السجّان مدير الزيارات الخطأ الّذي حدث في مناوبته، خطأ فادحًا بمفاهيمهم لكنّه خطأ سعيد بالنسبة إلينا.

انطلق مدير الزيارات يوبّخ السجّان المرافق لصديقنا الأسير، ويصرخ: ممنوع ممنوع، كيف حدث هذا؟ ممنوع أن يحدث؛ لأنّ حدثًا كهذا كان من الممكن أن يُسْتَدْعى بسببه السجّان للتحقيق معه على ’الإهمال‘، ويمكن أن يُدْخِلَنا نحن في سؤال وجواب وتفتيش، للتأكّد أنّنا لم نمرّر لبعضنا بعضًا شيئًا في هذا اللقاء، والتأكّد إذا ما كان الأمر مقصودًا، رغم أن لا شيء يمكن أن يُمَرَّر، إذ سبق الزيارة تفتيش كامل.

ضحكنا أنا وهو، وصرنا نهدّئ من روع السجّان ومدير الزيارات، ونؤكّد له أنّها صدفة جميلة، وأن لا أحد من جهتهم رأى ما حدث، وبإمكانه ’تمرير‘ الموضوع دونما جلبة، ونسيان ما حدث.

ارتخت أسارير وجه مدير الزيارات حين اطمأنّ بأنّ الحديث عن ’خطأ‘ تقنيّ غير مقصود، وأنّه - مدير الزيارات - لن يُحاسَب على الخطأ الحاصل في وقت مناوبته، خاصّة أن لا أحد آخر رأى ما حدث غيرنا.

أكمل السجّان بسرعة مع صديقنا إلى غرفة المحامين، وأوصد الباب هذه المرّة بكلّ إحكام. خرجت ابنتاي من غرفة الزيارات، مشيت معهما إلى الممرّ الموصل إلى الساحة الداخليّة، حيث كان الأسرى هناك، وأخبرتهم بما حدث. انطلق صراخ زوجته خليطًا من الفرح والعتاب، كيف لم تُتَحْ لها هذه الفرصة بنفسها؟ حدّثتها بـ ’الخطأ‘ الحاصل، وأهمّيّة التلكّؤ في غرفة الزيارات والممرّ.

فُتِحَ باب الممرّ الآخر المؤدّي إلى الساحة الخارجيّة. انطلقنا ومعنا مشاعرنا المختلطة والمكثّفة من هذه الزيارة؛ فكلّ زيارة تحمل في طيّاتها مشاعرَ وقصصًا وأخطاء، بعضها جميل كهذه، وبعضها الآخر أغلبه قبيح، كقبح السجون.

 


 

جنان عبده

 

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.